أمضى سكان مدينة بانتيو، البالغ تعدادها 300 ألف نسمة والواقعة في جنوب السودان، أياماً عدة بقلق في مراقبة سُحُب العاصفة المتجمعة. وتعيش هذه المجموعة من السكان في واحدة من أكثر المدن هشاشة في البنية التحتية على وجه الأرض، فهي مترامية الأطراف وتقع شوارعها تحت مستوى مياه بحيرة فكتوريا الضخمة، والتي ترتفع باطراد من جميع الجوانب.
ولولا الحواجز التي بُنيت لتطويق عاصمة ولاية الوحدة في البلاد لغطتها المياه بالكامل. وتتزايد المخاوف في الوقت الراهن من أن محاولات حماية بانتيو أصبحت غير مجدية، وقد تجرفها المياه قريباً، ما قد يؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح، وهو التأثير الكارثي لأزمة المناخ على دولة هشة.
وخلال موسم الأمطار العام الماضي، عندما سقط نحو 55 سنتيمتراً من الأمطار، ارتفعت المياه بمقدار 30 سنتيمتراً وكادت تخترق استحكامات المدينة. وتضاعفت التوقعات بأن تصل أمطار هذا الموسم، الذي بدأ في نهاية شهر مايو، إلى نحو 110 سنتيمترات. وترى بعض التوقعات أن كمية الأمطار ستكون أعلى من ذلك بكثير، إذ إنها سترتفع إلى متر ونصف المتر أمام الحواجز.
وتمكنت أعمال الطوارئ، التي يقوم بها نحو 274 مهندساً باكستانياً يعملون في مهمة للأمم المتحدة في جنوب السودان يطلق عليها اسم «أنماس»، من رفع الحواجز إلى أربعة أمتار أو أكثر، لكن القلق يظل ماثلاً، فقد تكون هذه الجهود غير كافية.
ويعترف رئيس المهندسين محمد وسيم الحسين بأن العمل الذي يقومون به ينطوي على كثير من الضغط، وقال: «لانزال مشغولين بإقامة مزيد من الحواجز، والتحقق باستمرار من قدرتها على تحمُّل ما ستتعرض له لاحقاً». وفي تصريح من مقر قيادة «أنماس» في العاصمة جوبا الواقعة على بعد 500 كيلومتر إلى الجنوب، كان قائد قوات الأمم المتحدة الفريق موهان سوبرامانيان يبدو قلقاً.
ويواصل سوبرامانيان تحديث معلوماته حول ما يمكن أن يحدث في الأشهر المقبلة، وقال: «نحاول تحسين الحواجز إلى الدرجة التي نتمكن فيها من تحمُّل سقوط 1100 مليمتر من الأمطار. ويقول إذا سقط أكثر من 1100 مليمتر من الأمطار فإن المياه سترتفع فوق هذه السدود.
وتتزايد المخاوف بسبب الأحداث التي تظهر على بعد نحو 1200 كيلومتر إلى الجنوب من جوبا، حيث وصل مستوى الماء في حوض بحيرة فيكتوريا، وهي منبع المياه المتدفقة حول مدينة بانتيو، إلى مستويات قياسية. وسيكون أكثر المعرضين للخطر هو مخيم النازحين في بانتيو، وهو أكبر مخيم للاجئين في جنوب السودان، حيث سعى الآلاف من الناس في البداية للجوء إليه هرباً من الصراع في هذه الدولة، لكن تجمع الآن نحو 150 ألف شخص تركوا منازلهم، للهروب من الفيضانات التي دمرت مزارعهم التي هي تقليدياً بمثابة مصدر الغذاء الأساسي والدخل.
ويعيش العديد من النازحين في هذا المخيم منذ أغسطس 2021، عندما تعرضت بانتيو والمنطقة المحيطة بها لفيضان غير مسبوق ناجم عن تغير المناخ.
وغمرت مياه الفيضانات العديد من القرى والغابات والحيوانات في غضون بضعة أيام، ومنذ ذلك الوقت لم تنحسر المياه حتى الآن، وتغطي أمتار عدة منها منطقة تعادل مساحتها 5600 كيلومتر مربع. واضطر المزارعون للتحول إلى صيد السمك، وأصبحت القرى التي عزلتها المياه عبارة عن جزر. ويقول سوبرامانيان: «في عام 2021 شهدنا أسوأ فيضان منذ 60 عاماً، وما تتنبأ به حكومة جنوب السودان والوكالات الأخرى الآن هو أسوأ فيضان منذ 120 عاماً، ويقولون إنه سيكون أسوأ مرتين من عام 2021». وتمكن مهندسو «أنماس» حتى الآن من إصلاح 60 ميلاً من أصل 77 من دفاعات الفيضانات التي تحيط بمدينة بانتيو، ومخيم النازحين، والقاعدة المجاورة التابعة للأمم المتحدة، فضلاً عن بلدة ربكونا القريبة، وتُجرى أعمال التفتيش اليومية للدفاعات الطينية بالقوارب.
وينظر مسؤول الإعلام عن الفيضان ومجموعة المهندسين الباكستانيين العسكريين، تيمور أحمد، إلى مخيم النازحين من قمة أحد الحواجز، حيث تمتد المياه إلى الأفق، ولا يقطعها سوى جذوع الأشجار الميتة، ويقول تيمور: «لم يتوقف العمل، لكننا واثقون بأنه سيصمد».
ويدرك المسؤولون أنه ربما يتعين على الأمم المتحدة أن تنقل مخيم النازحين برمته، وقال سوبرامانيان: «أحد الخيارات المطروحة هو نقل النازحين إلى منطقة أكثر ارتفاعاً، لكن ثمة العديد من المشكلات لأن الناس تمكنوا من تأسيس سبل عيشهم وكسب رزقهم في هذا المكان، ولكي أكون صريحاً لم نجد الحل المناسب حتى الآن».
وفي غياب خطة لنقل المخيم، بدأت «أنماس» في تعزيز المدرج الجوي عن طريق إنشاء حاجز ثانوي حوله، وإذا غمرت المياه المدرج فستكون المدينة معزولة وتصبح من دون طعام أو أية مساعدات أخرى، ويصبح الطريق الطيني الوحيد في المدينة للدخول والخروج منها مغلقاً خلال موسم المطر، ويتطلب الأمر نحو 20 رحلة جوية يومياً للحفاظ على بقاء المدينة في حركة طبيعية. ويقوم مهندسو الأمم المتحدة بعد كل رحلة جوية بإعادة تسوية المدرج، وإضافة التراب الجديد لضمان بقائه قابلاً للاستخدام، وفي حال لم يتم مثل هذا العمل فإن حطام العديد من الطائرات بجانبي المدرج هو بمثابة تذكير بما سيحدث إذا لم يقم المهندسون بهذا العمل وتسوية المدرج.
وإضافة إلى ذلك تم ردم الطريق نحو متر، وجرى حمايته بحواف من التراب على الجانبين لمنع المياه من اكتساحه.
وأثارت الأحداث التي وقعت في أكتوبر 2022، عندما أصبح مخيم اللاجئين قريباً من الغرق بعد تسجيل هطول أمطار بلغت 55 سنتيمتراً، انتباه الكثيرين، ففي منتصف ليلة الثامن من أكتوبر عثرت دورية تراقب الحواجز على فجوة بطول 30 سنتيمتراً في الدفاعات. وقال سوبرامانيان: «في غضون ساعة واحدة توسع هذا الشق إلى نحو تسعة أمتار تقريباً، واندفعت المياه بقوة كأنها نهر، وشكل المئات من جنود الأمم المتحدة وسكان المخيم سلسلة بشرية لإغلاق الفتحة بأكياس الرمل في عملية استغرقت نحو 40 ساعة، وفي عام 2022 تم تجنب الكارثة، أما في عام 2024 فلم تأتِ أكبر التحديات». عن «الغارديان»
بحيرة فكتوريا
يستغرق وصول المياه من أكبر بحيرات إفريقيا، وهي بحيرة فكتوريا التي تشكل منبع نهر النيل أيضاً، إلى مدينة بانتيو، نحو ثلاثة أشهر. ويخشى المحللون من أن كمية المياه غير المسبوقة المتجمعة نتيجة سقوط أمطار غزيرة متوقعة يمكن أن تؤدي إلى غرق المدينة، خصوصاً أن حاجز جينينا في أوغندا سيغرق، وتم تسريب المياه منه لتخفيف الضغط عليه. وقال قائد قوات الأمم المتحدة الفريق موهان سوبرامانيان: «لقد شاهدنا المياه تفيض من بحيرة فكتوريا في أوغندا بسبب المستويات القياسية لارتفاع المياه، ونحن نتوقع حدوث فيضانات في جنوب السودان بحلول سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر».
تزايد تكاليف أزمة المناخ
مجموعة من النساء يمشين على حاجز ترابي لحماية مخيم النازحين من الفيضان. من المصدر
تقضي العديد من الأسر اليائسة في القرى التي يجتاحها الفيضان الساعات بحثاً عن نباتات زنابق الماء كي تأكلها، بعد صيف آخر من الأمطار الغزيرة التي أدت إلى تفاقم الوضع المزري أصلاً.
ولا يملك هؤلاء الناس الطعام ولا الأرض لزراعتها بعد ثلاث سنوات من الفيضانات، حيث غرقت الحقول نتيجة الفيضان العام الماضي واكتظت الأراضي المرتفعة بالجوعى، ما أدى إلى حدوث أزمة إنسانية سريعة.
وتواصل بلدة فانغاك، وهي واحدة من أسوأ البلدات الـ31 المتضررة نتيجة الفيضانات، خسارة الأراضي نتيجة الفيضان، لكن السكان الذين هُجّروا من بيوتهم على طول ضفاف نهر النيل لم يجدوا أي مكان يذهبون إليه هرباً من ارتفاع المياه.
وقالت المرأة التي هاجرت مع عائلتها إلى منطقة السوق المركزي في منطقة «أولد فانغاك»، نايادوت غاتكوث، وهي إحدى المناطق القليلة المرتفعة: «لقد طردتنا مياه الفيضانات من منازلنا، والآن نتجه إلى أولد فانغاك للبحث عن مكان للنوم الليلة، ولكن لا نعرف أي مكان آخر يمكننا الذهاب إليه بعد الليلة، وإذا كان الأمر كذلك فسنصنع جزيرة صغيرة من العشب وننام فوق الماء».
وفي العام الماضي غادر السكان منازلهم الطينية المنهارة وناموا في الهواء الطلق تحت الشجر، وهجروا مباني المدرسة، لكن في هذا العام اجتاح الفيضان العديد من هذه المناطق. وتشير التقديرات إلى نزوح 1.7 مليون شخص داخل جنوب السودان، وزادت الهجرة هذا العام، حيث أكد الناس أنهم أُجبروا على البحث عن أرض مرتفعة مرتين على الأقل في الأشهر القليلة الماضية، واستسلم آخرون وعبروا الحدود إلى السودان.
وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 780 ألف شخص تضرروا بالفيضان حتى الآن، ومن المتوقع زيادة هذا الرقم في الأشهر المقبلة، أما في بلدات مثل فانغاك فمن المتوقع أن يزداد تعداد الأشخاص المتضررين من 75% إلى 100% تقريباً مع نهاية شهر أكتوبر، وفق ما ذكرته منظمة العمل ضد الجوع الإنسانية. وتقول الأمم المتحدة إنه يوجد في دولة جنوب السودان نحو ثمانية ملايين شخص في حالة عوز مطلق.
انعدام الأمن الغذائي
العديد من الأسر البائسة تقضي الساعات في جمع نباتات زنابق الماء كي تأكلها. من المصدر
لم يكن السكان قادرين على حراثة وزراعة الأرض منذ سنوات عدة، وإضافة إلى ذلك فقد كثيرون مواشيهم نتيجة الأمراض الناجمة عن الرعي في الأماكن المغمورة، ما يؤدي إلى فقدان الحليب واللحوم التي توفرها الماشية تقليدياً، وهي مصدر مهم للغاية للغذاء.
ووفقاً لما يقوله العلماء في المنطقة فإن فقدان المحاصيل ونفوق الحيوانات وتزايد الفيضانات؛ أدت إلى انهيار سبل العيش التقليدية، كما أن النباتات البرية والأسماك ليستا مصدراً مستداماً للغذاء على المدى البعيد، لأن الحصول على النباتات البرية سينعدم في موسم الأمطار، خصوصاً بالنسبة للأسر الفقيرة التي لا تمتلك زوارق، ما يؤدي مرة أخرى إلى انعدام الأمن الغذائي الحاد. وعلى الرغم من الجهود المبذولة استعداداً لفيضانات هذا العام، فإن توزيع الأغذية الإنسانية أعاقه نقص التمويل.