في كتابها الصادر حديثاً عن دار روايات «مدن داخلية»، تحول الكاتبة غدير الخنيزي تجربة التجول والترحال في المدن وشوارعها وأزقتها، إلى مسار حر للتجول في الذات، واكتشاف عوالمها، إذ ترصد وهي توثق إقامتها في المنامة ورحلاتها إلى باريس ومينيابوليس مفهوم الذاكرة، وعلاقة الإنسان بالمكان، وتعيد توصيف المعنى الجوهري للزمن، بوصفه مساحة مفتوحة يلتقي فيها الراهن بالماضي والمستقبل، ويتشابك فيها المتخيل مع الواقع.
وتقدم المؤلفة تجربة سردية مختلفة في أدب الرحلات، إذ تستند إلى مرجعيتها الأكاديمية والمهنية كمعمارية لتكتب أدباً جديداً، تتحاور فيه اليوميات مع التأملات الفلسفية، وتمتزج فيه السيرة الذاتية مع التأريخ المروي والمكتوب، وكأنها تشيّد بذلك معماراً مغايراً لأدب الترحال والسفر في خزانة الأدب العربي.
تستهل الخنيزي كتابها بتحديد المعنى المراد لمفاهيم ومفردات عدة تتكئ عليها في بناء علاقتها مع الأمكنة، وفي رسم ملامح تجربتها في الكتابة عنها، إذ تستهل الكتاب بمقطع من قصيدة الشاعر أدونيس يقول فيه: «وأعرف أن الطريق لغة في عروقي وليس المكان»، وكأنها بذلك تقول إن الطرق مسالك لتشكيل المعنى وقول ما يمكن واكتشاف ما ينبغي، تماماً كما اللغة.
ثم تنتقل لتضع القارئ عند مقصدها من مفردة «الرحلة»، فتكتب في «التمهيد»: «قد تبدو الفصول المقبلة نسيجاً لرحلة عابرة للتاريخ والأمكنة والثقافات.. لكن الرحلة الحقيقية هي التي جرت بالداخل، واستعادتها كانت عملية تخيلية شاقة بدأت بالتنقيب وانتهت بالترميم، تخللتها مراحل متواشجة من تفكيك طبقات الذات».
ولا تتوقف الكاتبة عند ذلك، وإنما تفرد فصلاً لتكشف معنى «التسكع»، وهو التوصيف الذي استخدمته في العنوان الفرعي للكتاب «التسكع في المنامة وباريس ومينيابوليس».
وتمرر الخنيزي سيرتها في الكتاب تماماً كما لو أنها تعبر شارعاً في مدينة، تشير إلى تفاصيل هنا وأخرى هناك، تتوقف عند علامات، وتروي ذكريات، وتضع الأسئلة من جديد أمام الأسئلة، لتصبح الإجابات خيار القارئ للمشي نحو الأمام.